سفر الرؤياعينة

سفر الرؤيا

يوم 8 من إجمالي 30

اليوم 8: الخلفية الأدبية (الأدب الرؤيوي)

سنفحصُ طبيعةَ الأدَبِ الرُؤيوي أولاً بالنَظرِ في خَصائِصِه، وثانياً بتَلخيصِ التَطورِ التاريخي. 

1) خصائص الأدب الرؤيوي:

الأدبُ الرؤيوي مُعقّدٌ، ويُمكِنُ تلخيصُه بطرقٍ مُتنوعة. يمكن تعريف الأدبَ الرؤيويَّ الكتابيَّ كما يلي:

هو أدبٌ رمزي إلى حدٍّ بعيدٍ يُستعملُ للتعبير عن الإعلاناتِ الإلهية، التي تُستلمُ عادةً بإعلاناتٍ خاصةٍ حولَ التفاعلاتِ بين الحقائقِ الطبيعيةِ، وغيرِ الطبيعيةِ والخارقةِ للطبيعة، وتأثيرُها على الماضي، والحاضرِ، والمُستقبل.

هذا التعريفُ مفصّلٌ بعضَ الشيء، لذلك يجبُ أن نأخذَ الوقتَ في شرحِه. أولاً، لنأخذْ بعينِ الاعتبارِ حقيقةَ أن الأدبَ الرؤيويَ الكتابي هو رمزي إلى حدٍّ بعيد.

بصورةٍ عامة، الرمزُ هو علامةٌ أو رسمٌ يشيرُ إلى شيءٍ أبعدَ منه. على سبيلِ المِثال، الكلماتُ هي علاماتٌ تشيرُ إلى أشياءَ مثلِ الأفكارِ، والأغراضِ، والأعمالِ، والصفاتِ. الأعلامُ الوطنيةُ هي رموزٌ لبُلدانِها. والصَليبُ هو رمزٌ مُعترَفٌ به إلى حدٍ بَعيدٍ في الدِيانةِ المَسيحية. كمَثلٍ واحدٍ فقط، انظر كيفَ فسّرَ يسوعُ الرَمزَين في الرؤيا ١: ٢٠:

سِرَّ السَّبْعَةِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي رَأَيْتَ عَلَى يَمِينِي، وَالسَّبْعِ الْمَنَايِرِ الذَّهَبِيَّةِ: السَّبْعَةُ الْكَوَاكِبُ هِيَ مَلاَئِكَةُ السَّبْعِ الْكَنَائِسِ، وَالْمَنَايِرُ السَّبْعُ الَّتِي رَأَيْتَهَا هِيَ السَّبْعُ الْكَنَائِسِ.

في سِياقِ هذا العدد، رأى يوحنا رؤيا للمسيحِ كان فيها الربُّ يُمسكُ كواكبَ بيدِه اليُمنى ويمشي بين المناير. لكن الكواكبَ والمنايرَ هي رموز. فهي تُمثّلُ ملائكةً وكنائس.

يَستخدمُ الأدبُ الرؤيوي الكتابي الرموزَ بكَثرة. بعضُ الرموزِ تَصويريةٌ إلى حدٍ بعيد، كأن يَستخدِمَ الكاتِبُ رُموزاً تَنطبِقُ بوضوحٍ على ما شاهَدَه. ففي دانيالَ ٧: ٤، دوَّنَ دانيالُ رؤيا لوَحشٍ بدا مِثلَ أسَدٍ بأجنِحَةِ نَسْر. والأسَدُ والأجنِحَةُ تصويريانِ لأنَهما ينقلان مَظهرَ المَخلوقِ الحَقيقي. وهما رَمزِيان لأنهما يتَحَدَثان عن طَبيعَتِه. ورَمزُ الأسدِ يُشيرُ إلى أن المَخلوقَ كان قويّاً ومخيفاً. والأجنِحةُ على الأسَدِ تربُطُه على الأرجَحٍ ببابلَ التي غالباً ما تَظهَرُ في رُسوماتِها الأسودُ بأجنِحة.

في حالات أخرى، قد يكون الرمز مبتكراً ليعبّر عن حقيقة. ففي يوئيل ٢: ٢٥ وصف الله الجيوش الغازية بالجراد. الجيوش لم تبدُ كالجراد لكنها تصرفت مثل الجراد. فقد كانت حشوداً كبيرة لا يمكن وقف تقدّمها، تلتهم كل ما في طريقها.

كما استُخدِمتْ رموزٌ أخرى بسببِ كونِها تمثلُ أموراً، أو أشياءَ، أو أفكاراً تقليدية، مثلَ عَلَمِ البلَد. فَمثلاً في كتابِ الرؤيا ١: ١٠-٢٠، رأى يوحنا رؤيا عن يسوعَ كانت رمزيةً إلى حدٍّ بعيد. فقد ظهرَ يسوعُ كإنسانٍ لابساً ثوباً طويلاً مع حِزامٍ ذهبيٍّ حولَ صَدره، ووجُهُه يُشِعُّ مثلَ الشمس. ورِجلاه شِبهُ النُحاسِ النقي، كأنهما مُحمَّيتان في أتون. وصوتُه مثلُ مياهٍ مندفعةٍ بقوة. وسيفٌ ماضٍ ذو حَدَّين يَخرجُ من فمه. وهو مُمسِكٌ بالسبعةِ الكواكبِ في يدِه. وَيَقِفُ وَسَطَ المَنايرِ السَبع.

وهذه التفاصيلُ تُذَكِرُنا بالرُموزِ والصُورِ المَجازِية ِفي العَهد القَديم، وبالتالي تُذكِّرُنا ضِمناً بيسوع. فَمَثلاً الثِيابُ والشَعرُ الأبيضُ والوجهُ الذي يَلمَعُ كالشَمسِ جَميعُها يذكّرُنا بوصفِ اللهِ في دانيالِ ٧: ٩. وتُذَكِّرُنا المَنايرُ بأثاثِ المَسْكَن والهَيْكَل، مما يُشيرُ إلى أن يسوعَ ما زالَ حاضراً مع شَعبِه كما كانَ اللهُ حاضِراً مَعَهم في بُيوتِه المُخَصَّصة لعِبادَتِه في العَهدِ القَديم. وتُذكِّرُنا الكَواكِبُ بأوصافِ العَهدِ القَديمِ للمُلوكِ والقادةِ البَشريينَ الآخَرين، كما في العَددِ ٢٤: ١٧ وفي إشَعياءَ ١٤: ١٢ ومواضِعَ أخرى كَثيرةٍ. فعندما يتحدثُ كتابُ الرؤيا عن الكواكبِ كمَلائكةٍ تُمثلُ الكنائسَ، فذلك لأن يسوعَ كان يُعلنُ مُلكَه الروحي الحاضِرَ على كل الخَليقَة. فمنِ المَنظورِ البَشري كانت روما تهدِّدُ بالسيطرةِ على مصيرِ الكَنيسة. لكنَّ الرمزَ أعلنَ أن يسوعَ يُمسكُ بيدِه بالقدرةِ والسُلطانِ الكَاملَين على الكَنيسة.

تتَضمنُ الكتاباتُ الرؤيوية غالباً صوراً ورموزاً يواجهُ القرّاءُ العَصريون صُعوبةً في فهمِها. لكنَّ معظمَ الرموزِ في كتابِ الرؤيا لم تَكن غامضَةً بالنسبةِ لقرّاءِ كِتابِ يوحنا الأوائل، لأنها كانت مأخوذةً من العَهدِ القَديمِ ومن العالمِ الذي حَولَهم. ولم يكن القصدُ من تلكَ الرموزِ إرباكَ قرّاءِ يوحنا، بل إبلاغَهم الحقيقةَ بطريقةٍ آسرةٍ لا يمكنُ نِسيانُها.

خاصيِّةٌ ثانيةٌ للأدبِ الرؤيوي الكتابي هي أنه ينقلُ الإعلاناتِ الإلهية. الأدبُ الرؤيوي الكتابي مُوحى به من الروحِ القُدُسِ تماماً مثلُ بقيةِ النصوص المقدسة. فهو جُزءٌ من كَلمةِ اللهِ المَعصومَةِ، والمَوثوقِ بها تماماً، وذاتِ السُلطانِ إلى شَعبِه. وهي تَنقلُ إلينا الإعلاناتِ الحقيقيةِ التي استلمَها الكتّابُ البشريونَ سواء من اللهِ نفسه، أو بواسطة ملائكته المرسلين الموثوق بهم تماما. والأدبُ الرؤيوي في الكتاب المقدس ليسَ تخمينيّاً – أي ليسَ أفضل تخمين للكاتب. بل على العكس، هو إعلانُ اللهِ الحقيقي لشعبِه الذي يكشفُ عن مقاصدهِ نحوَ خليقتِه.

ثالثاً، الإعلاناتُ الإلهيَةُ المُقدَّمةُ في الأدبِ الكِتابي الرُؤيوي تَنهجُ أن تكونَ قد استُلِمَتْ من خلالِ إعلاناتٍ خاصة. كلمة رؤيا (apocalypse) نفسُها تعني الكشف أو الإفصاح. لذا في جوهرِه، الأدبُ الرؤيوي الكِتابي هو أسلوبٌ يُعلنُ فيه اللهُ خُطتَه إلى شَعبِه، بِحيثُ يتمكنونَ من فهمِ العالمِ ولا يَفقُدون الأمل.

لكن على نقيضِ بعضِ الإعلاناتِ الخارِقة، كَتجلّي اللهِ لكلُ شَعبِ إسرائيلَ في عَمودِ سحابٍ في الخُروجِ ١٣، فإن الإعلاناتِ الرُؤيويةَ الكتابيةَ يستلمُها أفرادٌ مُنعزلون. فالأنبياءُ رأوا أحلاماً، وسمِعوا أصواتاً، ورأوا رُؤى، وزارَهُم رُسلٌ ملائكيون، ويبدو أنه كانت لهم اختِباراتٌ غادروا فيها أجْسادَهم. وفي بعضِ الأحيانِ التقوا اللهَ نفسَه. لكن ذلك حدَثَ في إطارٍ منعزلٍ سِرّي. وكان يَعودُ إلى النَبي كَرسولٍ وسَفيرٍ لله أن يُسلِّمَ الرِسالةَ التي تلقاها إلى شَعبِ الله.

الخاصيِّةُ الرابعةُ للأدبِ الرؤيوي الكتابي التي نُشيرُ إليها تتعلقُ بـالتفاعلاتِ بينَ الحقائقِ الطبيعية، وغيرِ الطبيعية، والخارقةِ للطبيعة. نعني بالعالَمِ الطَبيعيِّ الكونَ الذي نعيشُ فيه، بما في ذلكَ العالمُ الماديُّ وكلُّ المخلوقات التي فيه. والكلمةُ غيرُ الطبيعي تشيرُ إلى عالمِ ما وراءِ الطبيعة. وهذا العالمُ هو المسكونُ بالأرواحِ كالملائكةِ والشياطين. أخيراً، الكلمةُ خارقٌ للطبيعة تعني فوقَ الطبيعة وتشيرُ بالتَحديدِ إلى اللهِ وأعمالِه. اللهُ هو السيدُ الوحيدُ الذي هو فوقَ العالمِ الطَبيعي ويَسودُ عليه. فهو الكائنُ الوَحيدُ الذي هو حقّاً خارقٌ للطَبيعة.

كلُ هذه العَوالمِ هي في تَفاعُلٍ مُستمر. والله يُمارسُ سُلطانَه على العالمَينِ الطَبيعي وغيرِ الطَبيعي. والمَلائكةُ والشَياطينُ في العالمِ غيرِ الطَبيعي تُؤثرُ في الأُمورِ التي تَحدثُ في العالمِ الطَبيعي. الشَياطينُ تُجرّبُنا لنُخطئ. والملائكةُ تَحفُظنا. وبحسَبِ الكِتابِ المُقدس، المَلائكةُ والشَياطينُ تؤثرُ حتى في سياساتِنا العالمية.

نجدُ في العَهدَين القديمِ والجديدِ تلميحاتٍ إلى القوى الروحيةِ التي تُؤثِّرُ في مسارِ تاريخِ العالم. على سبيلِ المِثالِ في ٢ ملوكِ ٦، كان أليشعُ مُلاحَقاً من مَلكِ آرام. في نَهايةِ الأَمر، أدرَكَه ملكُ آرامَ وأَحاطَ به، وارتَعبَ خادمُ أليشع (2 ملوك 15-17). 

على الرغمِ من أن هذه المشاهداتِ في العالمَين غيرِ الطبيعي والخارق للطبيعة تَظهرُ هنا وهناك في أجزاءٍ مختلفةٍ من العهدَين القديمِ والجَديد، فالأدبُ الرؤيوي الكتابي يركّزُ بكَثرةٍ على هذه المسائل. على سبيلِ المثال، تُركّزُ أجزاءُ من يوئيلَ، وحِزْقِيَالَ، ودانيالَ وزَكريا، انتباهَها على التفاعلِ بين العوالمِ الطبيعية، وغيرِ الطبيعية، والخارقةِ للطبيعة. وكذلكَ بالطريقةِ ذاتِها يلفتُ كتاب الرؤيا الانتباهَ مرةً تلوَ المرة إلى عوالمِ اللهِ والقوى الروحيةِ والسلاطينِ التي يستخدمُها اللهُ في إتمامِ مقاصدِه.

أخيراً، خاصيِّةٌ خامسةٌ للأدبِ الرؤيوي الكِتابي هي أنه يَشرحُ تأثيرَ العَوالمِ الطبيعيةِ وغيرِ الطبيعيةِ والخارقةِ للطبيعة على الماضي، الحاضر والمستقبل. يُركِّزُ الأدبُ الرؤيوي الكِتابي على كل جوانبِ التاريخ. وهو يفسّرُ الطُرقَ التي من خلالِها أثَّرتِ العوالمُ الطبيعية، وغيرُ الطبيعيةِ، والخارقةُ للطبيعةِ على عالمِنا في الماضي، وما زالتْ تؤثرُ على عالمِنا الحاضر، وكيف ستؤثرُ على عالمِنا في المُستقبل. وأكثرُ من ذلك، فإن الأدبَ الرؤيويَّ، مثلَ بَقيةِ أسفارِ الكِتابِ المُقدَس، يَنظُرُ إلى كلِ التاريخِ كقِصَةٍ كَبيرَة - قِصَةِ الخَليقة، وسُقوطِ الإنسانِ في الخطيّة، والفِداءِ الذي تَبِعَ ذلك من خِلالِ المَسيح. ويَنهجُ الأدبُ الرؤيوي إلى وَصفِ الحاضرِ بعَلاقتِه بالألمِ والصُعوبات، ويركّزُ على المستقبلِ عندما ستتحققُ كلَ الآمال.

يجدُ أحياناً المسيحيونَ المعاصِرون صُعوبةً في فَهمِ كتابِ الرؤيا لأنهُم لا يُفكرونَ بالبرَكاتِ الروحيةِ التي تقفُ وراءَ اختِباراتِهم في الحياة. ونحن كبشَر نتأثَر بالعِلم الحَديث، ونَميلُ لأن نَبحثَ عن تَفسيراتٍ طَبيعيةٍ للأمورِ التي تَحدثُ في حَياتِنا، فنركّزُ على أمورٍ نَراها، ونَسمعُها، ونَشمُها، ونتَذوقُها، ونَلمَسُها. لكنَّ الكتابَ المُقَدسَ يُوضِحُ أنه يمكنُ لحَواسِنا أن تُدرِكَ فقط جُزءاً مما يَحدُثُ حَولَنا.

ولكي نستوعِبَ ما يقدِّمُه لنا كتابُ الرؤيا اليوم، يَجبُ أن نَضعَ جانباً التَفسيراتِ الطَبيعية، ونتبَعَ تَعليمَ الكتابِ المقدَس. ما يَحدثُ في داخلِنا وحَولَنا، يَتأثرُ إلى حدٍ بعيدٍ بالقوى الروحية، وباللهِ نفسِه. وما يبدو لنا كأحداثٍ طَبيعية، وأزَماتٍ شَخصيَة، ومشاكلَ في الكَنيسة، وحتى النِزاعاتِ السِياسيةِ ليسَت مُجردَ أحداثٍ طبيعية. فهي نتيجةُ تَدَخُلاتٍ مُعقّدةٍ تَشمَلُ دَورَ اللهِ والحَقائقِ الروحيَة.

وحينَ نَقبلُ نَظرةَ الكِتابِ المُقدسِ حولَ تلكَ المَسائل، يُمكنُ لكِتابِ الرؤيا أن يتَكلمَ إلينا بقوَة، تَماماً كما تَكلمَ إلى قُرّائِه في القَرنِ الأول. ولا يُمكِنُ لأيٍ منا أن يَرى الحَقائقَ الروحيَةَ الكاملَةَ التي تَكمنُ وراءَ اختِباراتِنا. لكنْ كتابُ الرؤيا يَكشِفُ النِقابَ عن تَلكِ الأُمورِ الروحِيَةِ ليَسمحَ لنا أن نَرى خُطَةَ اللهِ الكَونيةَ في تَحْقيقِ الخَلاصِ في التاريخِ من خِلالِ يَسوعَ المَسيح. فهو حاضرٌ الآن بِروحِه مع كَنيستِه، وسيَعودُ ليُعلنَ الانتِصارَ النِهائيَ على كلِ أعدائِه.

2) التطور التاريخي:

ظنَ كثيرونَ من علماءِ النقدِ أنَ الأدبَ الرؤيويَّ في الكتابِ المقدسِ هو نتيجةُ التأثيرات البابليةِ والفارسيةِ في زمنٍ متأخرٍ من تاريخِ إسرائيلَ بعد سبيِ القرنِ السادس قبل الميلاد إلى بابل. لكنَّ الدِراساتِ الحَديثةَ بَيَّنتْ أن السِماتِ الرَئيسيةِ للأَدَبِ الرُؤيوي نَشَأتْ باكراً في الإعْلانِ الكِتابي مَع بَدْءِ تَفاعُلِ إسرائيلَ مع الحَضاراتِ الكِنعانِيةِ من حَولِها وحَضارةِ الشُعوبِ الساميةِ الغَربية.

العديدُ من العناصرِ التي برَزَتْ في الأدَبِ الرُؤيوي الكِتابي ظَهرتْ أيضاً في الأسْفارِ الأقدَمِ للعَهدِ القَديم. على سبيلِ المِثال، يوجَد في الخُروجِ ١٥ ترنيمةٌ رَمزيةٌ إلى حَدٍ بعيدِ تَحتفلُ بإغراقِ اللهِ لجَيشِ الأعداء في البَحرِ الأحمَر. وهي تَتَحدثُ عن تَحطيمِ اللهِ الأعداء بيدِهِ اليُمنى، مُحرقاً إياهَم مثلَ القشِّ، جاعلِاً المِياهَ تَتراكمُ بريحِ أنفِه، والأرضَ تبتلِعُهُم. ويتابعُ فيقولُ إن الشعوبَ ستَرتَعِدُ من مِخافةِ الله، بحيث تتثبت إسرائيل في أرض الموعد ويَسكنُ اللهُ مع شعبه كملكَهِم الأبدي. مثلٌ آخرُ نجدُه في أسفارِ موسى، هو نبوةُ بلعامَ في العددِ ٢٤: ١٧، حيثُ يُوصَفُ قيامُ الملكِ في إسرائيلَ بصورة الكوكبِ الرمزية.

وهذا الأسلوبُ الأدبي نما تدريجيّاً في تاريخِ إسرائيل. ويتحدثُ أيوبُ ٢٦: ١٢ والمزمورِ ٨٩: ١٠ عن أن اللهَ سيسحقُ الحيةَ "رهب" في معركةٍ كونية. وفي أيوبَ ٤١ أعلنَ اللهُ سلطانَه على لَوِيَاثَان وحشِ البحر. واستمرَ الأنبياءُ في تطويرِ مجازٍ رؤيويٍ إلى مستوياتٍ أعلى في أسفارٍ مثلِ يوئيلَ، ودانيالَ، وحِزْقِيَالَ وزَكَرِيَّا. على سبيلِ المثال، يُدوِّنُ كتاب دانيالَ ٧ حلمَ دانيالَ الذي فيه تصعدُ مجموعةٌ من الحيواناتِ الهائلةِ من البحر، ينتهي بدينونةِ الله ِوإهلاكِه آخرَ تلكَ الحيواناتِ وأرهَبَها.

الفترةُ التي تلي مباشرةً خاتمةَ العهدِ القديمِ تُسمى غالباً فترةَ ما بينِ العهدَين، لأنها كُتبت بعدَ العهدِ القديمِ وقبلَ العهدِ الجديد. خلالَ تلكَ الفترةِ، تطورَ الأدبُ الرؤيوي إلى نوعٍ جديدٍ بالكامل، وظهرتِ الكثيرُ من الكُتبِ الرؤيوية خارجَ أسفارِ الوحي. بين تلكَ الكُتُب: صعودُ موسى، وأَخنوخ، وأجزاءُ من عَزرا ٢، ورؤيا باروك، ولفيفةُ الحربِ التي وُجِدَت في قُمران. وبالرغمِ من أن هذهِ الكتبَ ليستْ جُزءاً من الكتابِ المقدسِ، فنحنُ نشيرُ إلَيها لتساعدَنا على اقتفاءِ أثرِ تطورِ الأدبِ الرؤيوي.

تناولتْ هذه الكتبُ بقوةٍ الصراعاتِ الكونيةَ التي وراءَ اختباراتِ قرائِها الأرضِيين. واقْتَبَسَتْ بكثرةٍ من الصورِ المجازيةِ لأنبياءِ العهدِ القديم، وطوّرتْ استخدامَ تلك الصورِ عن طريقِ دمجِها معاً. وهذه الجوانبُ المحدّدةُ للأدبِ الرؤيوي لفترةِ ما بينَ العهدَين، نجدُها أيضاً في كتاباتِ العهدِ الجديدِ الرؤيوية.

رغمَ أن كتابات ما بين العهدينِ الرؤيويةَ تشبهُ إلى حدٍّ ما الكتاباتِ الرؤيويةَ الكتابية، فهي تَمتَلكُ أيضاً خَصائصَ تميّزُها عن أسفارِ الكتابِ المقدسِ في جوانبَ هامة. على سبيل المثال، هي تَحملُ أسماءً مُستعارة، أي تَستخدمُ أسماءً غيرَ حقيقةٍ لتشجّعَ الناس على قِراءتِها وقُبولِها ككتبٍ موثوقٍ بها كتَبها صاحبُ الاسمِ المستعار. لكنْ هذه الممارسةُ غيرُ شريفةٍ وقد أدانَها بولسُ في 2 تسالونيكي 2: 2. بعضُ الكتاباتِ الرؤيويةِ خارجَ الكتابِ المقدسِ تَروي أحداثاً ماضية كما لو أنها لم تحدثْ بعد، لتعطيَ الانطباعَ أن الكاتبَ تنبأَ بدقةٍ عن كلِ تاريخِ إسرائيل. وهذا بالطبعِ نوعٌ آخرُ من الكَذِب. والأدبُ الرؤيوي الكتابي لا يَستخدِمُ مُطلقاً هذه الوسيلة. 

استمرَ نوعُ الأدبِ الرُؤيوي في التطوُر. وهنا لا بدَ أن نتذكرَ أن المادةَ الرؤيويةَ في العهدِ الجديدِ مُختلفةٌ تماماً عن أدبِ ما بين العهدَين. فالعهدُ الجديدُ صادقٌ تماماً وجَديرٌ بالثِقة. في الوَقتِ نفسِه، استخدَمَ أدبُ العهدِ الجديدِ الرؤيوي أُسلوباً مشابهاً إلى حدٍ بعيدٍ لكتاباتِ بينَ العَهدينِ الرؤيوية.

نجدُ خارجَ كتاب الرؤيا، أشكالاً رؤيويةً مثلَ متى ٢٤. في ذلك الفصلِ اقتبسَ يسوعُ من الأدبِ الرُؤيوي لرؤى دانيالَ وإشَعياءَ ليُفسّرَ الأحْداثَ المُستقبَليَة، مثلَ دَمارِ هَيكلِ أورشَليم، وحتى نهايَةِ العالَم. على سبيلِ المثال، في متى ٢٤: ٢٩، تَحدَّث يسوعُ عن توقفِ الشمسِ والقمرِ عن إعطاءِ ضوئِهما، وسقوط ِالنجومِ من السَماء.

قد تكونُ هناكَ أيضاً إشاراتٌ إلى الأسلوبِ الرؤيوي في رسائلِ بولس. غالباً ما بَعثَ بولسُ الأملَ في قُرائِه عن طَريقِ البُرهانِ أن موتَ المَسيحِ وقيامتِه قهرا الأرواحَ الشِّريرة، كما نَقرأُ في كولوسي ١: ١٥-٢٠، و٢: ١٣-١٥. وهو غالباً ما تَحدَّثَ عن الحَربِ الروحيةِ بطرُقٍ تُشبهُ الكِتاباتِ الرؤيويةَ. وفي ٢ تسالونيكي ٢، تحدَّثَ عن قِوى الشرِّ الكَونيةِ التي ستُقهَرُ عندَ رُجوعِ المَسيح.

لكنْ لا شكَ أن الكتابَ الأفضلَ الذي يُمثِلُ التطورَ النهائي للأدبِ الرؤيوي الكتابي هو كتاب الرؤيا. إنَّ الرؤيا كتاب معقدٌ لأنه يتضمنُ الكثيرَ من سِماتِ الأَدبِ الرؤيوي. لكن في الوَقتِ عينِه هذا الأدبُ مُترسخٌ بعمقٍ في بَقيةِ الأسفار. ولا شَكَ أن ذلكَ يريحُنا عندما نقرأُه. قد يبدو الكتابُ غَريباً بالنِسبةِ إلينا، لكن تُساعدُنا بقيةُ أسفارِ الكتابِ المُقدَسِ على فَهمِ رِسالَتِه، وكذلكَ على تَطبيقِها على حَياتِنا الخاصَة في عالِمنا المُعاصِر.

فَهمُ الخَلفيةِ التاريخيةِ للرؤيا يُساعدُنا كثيراً. وكونُ الرؤيا يتألفُ بصورةٍ رئيسيةٍ من نبوةٍ رؤيويةٍ يُطمئنُنا بأنَ الغايةَ من الكتابِ هي حثُنا على إطاعةِ اللهِ من كلِ قلوبنا. وليسَ القصدُ من كلماتِه وصورِه أن تربكَنا، أو أن تُقدمَ لنا ألغازاً عن مستقبلٍ غيرِ واضح، بل بالعَكس، فإن القَصدَ من الرؤيا هو أن يَكونَ كِتاباً مَفهوماً ومُشجِّعاً ليُرشِدَنا إلى حَياةٍ نَخدِمُ من خِلالِها اللهَ. وإذ نَتفَحَصُ كتابَ الرؤيا بصورةٍ أعمقَ في دُروسٍ أُخرى، فإنَّ فَهْمَنا لدورِه كأدبٍ رؤيويٍ يساعدُنا على فَهمِ رسالتِه وعلى العَيشِ وِفقَ تَعاليمِه.

يوم 7يوم 9

عن هذه الخطة

سفر الرؤيا

 يمكن لسفر الرؤيا أن يكون ممتعاً ومربكاً في نفس الوقت. فهو ممتع لأنه يسجل  رؤى دراميّة عن دور المسيح والكنيسة في تاريخ العالم. لكنه أيضاً مربكاً  لأني الصور المجازيّة الخاصة به غريبة جداً عن القرّاء المعاصرين. ورغم  ذلك، فإن الرسالة العامة واضحة: يسوع الملك سيعود بانتصار. 

More

نود أن نشكر خدمات الألفيّة الثالثة على تقديم هذه الخطة. لمزيد من المعلومات ، يرجى زيارة الموقع: 

http://arabic.thirdmill.org/seminary/course.asp/vs/rev