إصنعني وعاءًا آخرعينة
الشخصيّة الكريمة
الكرم هو من الصفات المحمودة بين الناس، يتَّسم فيه المرء بِالطيبة والسلوك المُتسامح والتصرّفات العَطوفة والاهتمام بِالآخرين. وهو نقيض البُخْل. وقد دَلَّت الأبحاث على أنّ التصرّف بِكَرمٍ يَستفيد منه الذين يَتلَقَّوْه، والذين يَمنحوه، إذ تؤَدّي مثل هذه التصرّفات إلى مشاعر هدوء البال والاسترخاء.
ليس الكَرَم ردَّ فعل لِما يراه أشخاص من عَوَز حولهم فَحَسْب، إذ نرى الكثيرين يطلبون لِنُفوسهم أو لِعائلاتهم، معبِّرين عن احتياجات صادقة (لأنّهم متوَقِّفون عن العمل أو مظلومون...)، بل هو عطاء نابع من محبّة وعطف المُعطي دون التمييز بين المحتاج وغير المحتاج. فالشخص الكريم كريمٌ في وقته، في مواهبه، في عبادته، في عطائه، وكريمٌ في مشاركة معلوماته، والتعبير عن عاطفته، وهذه الصفات تعكس طبيعة الله. فالكريم يفتح عينيه وأُذنيه لكي يرى ويسمع احتياج الذين حوله، فيما البخيل يُغْلِق عينَيْه ويَصُمّ أذنَيْه لكي لا يرى ولا يسمع، فيعيش في فقر دائم...
وغاية حديثنا هذا، هو التشجيع على عَيْش الغِنى الحقيقي والعطاء بِكَرَم، ولكنّي سأُركِّز على الكرم المادّي، لأنّه حاجة ماسة.
يُروى أنَّ ابنةً قدَّمَتْ هديّةً لأبيها لمناسبة بلوغه سنّ الأربعين، وقالت له: "هذه هديّة منّي لِمناسبة عيدك؟" ولمّا فتح الوالد الهديّة، فوجئ بأنّها أعطتْه كلّ المال الذي كانت قد جمَعته من مصروف جيبها. فقال لها: "لماذا تعطيني كلّ مالك، اِحتفظي بجزء منه، ربما احتَجْتِ إليه!". فقالت له: "لستُ بحاجة إلى أن أحتفظ بشيء منه، لأنّي واثقة من أنّك، حين أحتاجُ إلى المال، ستُؤَمّن لي المبلغ الذي أحتاجه".
كم هو كبير إيمان هذه الفتاة بأبيها!
أ) نعم، فالشخصيّة الكريمة لها إيمان كبير بأنّ الله يَسُدّ كل احتياجاتها، ولذلك تسعى دومًا لتبقى كريمةً مثل الله.
ب) الشخصيّة الكريمة تُعطي بدون مقابل، ولا تُفكّر باسترداد مالها.
ج) الشخصيّة الكريمة بعيدة عن الأنانيّة، لا بل تُحارِبها بالعطاء، لأنّها كلّما أعطَتْ، تشنّ حربًا على المادّية الموجودة في العالم؛ وتُؤَكّد إيمانها بأنّ الله قادر أن يؤمّن احتياجاتها ويهتمّ بها.
د) الشخصيّة الكريمة يبحث عنها الله، لأنّها لا تحتفظ بِالخير بين يديها، بل تحوّله للمحتاجين.
عندما أتكلَّم عن الشخصيّة الكريمة، لا أتكلَّم عن تقديم العشور، بل أتكلَّم عن الكَرَم أي العطاء غير المتوقَّع، وغير المطلوب منّي. وفي هذا المجال، نجد في الكتاب المقدّس ثلاثة أنواع من العطاء:
١) العشور، أي ما يوازي 10 في المئة من مدخولك. ومَن يُعطي العُشْر للربّ، إنّما يعترف بأنّ الربّ هو سيّد على ماله (وأنا أُشجِّع على زيادة هذه النسبة مع تقدّم السنين... فكلّما ازدادت القيمة تستطيع أن تساعد أكثر فأكثر). وقد يُفكِّر بعضهم بالخدمة الطوعيّة، لِلتّعويض عن العطاء المادي، أو يقول بعضهم إنّ مدخوله "لا يكفي"، ربّما. ولكن اِنْتَبِهْ من أن يكون هذا تخديرًا لِلضّمير، فهناك قولٌ: "أعطِ الله ماله، يُعطِك ما له!" لذلك، أتمنّى أن يُعطي الجميع العُشْر، لأنّي متأكّد من أنّ الربّ يُريد أكثر من ذلك.
٢) التقديمات، التي تُقدَم لِسدّ حاجة أحدٍ، أو لدى رؤية وضع صعب تتحرّك له الأحشاء، أو لدى سماع عظة حماسيّة... ولا علاقة لهذه التقديمات بالعُشْر الذي تُقدِّمه للكنيسة.
٣) العطاء المُؤلم، الذي يُسمّيه بولس عطاء فوق الطاقة. وهو العطاء الكريم الذي يعكس مقدار حبّك للربّ، والذي سأُركّز عليه اليوم، معتمدًا على بعض مقاطع من الكتاب المقدّس.
* المقطع الأوّل نأخذه من سفر الملوك الأوّل الفصل 17، وفيه قصّة لقاء النبي إيليا بِأرملة صرفة: بعد مواجهة بين النبي إيليّا والملك آحاب، أوقف النبيّ بنتيجتها المطر لمدّة طويلة، حدثَتْ في إثرها مجاعة كبيرة... أوعز الربّ بعدها إلى إيليا أن يعتكف قرب نهر كَريثَ مقابل الأردن، حيث كانت الغربان تأتي إليه بالخبز... وبعد أن جفّت مياه النهر، طلب الربّ من إيليّا أن "اِذْهَبْ إلى صِرفة التي في صيدا وأَقِمْ هناك، وقد أمرتُ امرأةً أرملة أن تعولك..." ولمّا وصل إلى الباب، وجد امرأة تجمع الحطب، فقال لها: هاتي لي قليلًا من الماء في إناء، وكِسرة خبز في يدك. فقالت: حَيٌّ هو الربّ، لم يبقَ لديّ سوى "مِلْءَ كَفّ" دقيق (طحين) في الجرة، وقليل من الزيت. وأنا أجمع بعض الحطب لأعمل ما نأكله أنا وابني، ثُمّ نموت. فقال لها النبيّ ع 13 "لا تخافي. ادخُلي واعْمَلي كقَولِك، ولكن اعْمَلي لي منها كعكةً صغيرةً أوّلًا، واخرجي بها إليَّ، ثمَ اعمَلي لك ولابنِك أخيرًا. 14 لأنّه هكذا قال الربّ إله إسرائيل "إنّ جرّة الدقيق لا تفرُغ وقارورةَ الزيت لا تنقُص إلى اليوم الذي فيه يُعطي الربّ مطرًا على وَجْهِ الأرض". (1 ملو 17: 1-14).
فذهبَتْ، وعَمِلَتْ حَسَب قول إيليّا، فأكلَتْ هِي وهو وأهلُ بيتها أيّامًا. وهذا هو الدرس يا كنيسة المسيح:
- عندما نُعطي الربَّ أوّلًا، لن نحتاج أبدًا.
- عندما نُعطي الربَّ أوّلًا، يُكافِئنا دومًا.
- عندما نُعطي الربَّ أوّلًا، من عَوَزِنا، يُعطينا من كَرَمه حتمًا.
- عندما أعطتِ المرأة كلّ ما عندها، اِكْتَشفَتْ أنّ كلّ شيء عندَه هو لها.
فماذا عنكَ أنتَ؟ هل تُعطي الرب بِكَرَم من عَوَزك أوّلًا؟
** المقطع الثاني نأخذه من الفصل الأوّل من سفر الأخبار الأوّل، وفيه قصّة داود وبناء الهيكل. كان داود أشقرَ الشعر، جميلَ العينَيْن، مُخلِصًا وشجاعًا. وكانتْ لديه مواهب موسيقيّة... وقد تَحلَّى بِالتواضع والتقوى، فمَسَحَه صموئيل ملكًا على شعبه. وكان قائدًا ناجحًا. وكانَتْ لديه أيضًا رغبة في أن يبني بيتًا للرب، فانشغل بإعداد ما يلزم لبناء الهيكل. ونرى أيضًا كيف أعطى الربّ بِكَرَم، وهيّأ جميع موادّ الهيكل (1 أخبار 29: 2-4؛ 6-7؛ 9-17). فكانت النتيجة أنّه:
- عندما يُعطي القائد بِكَرَم وأَلَم، مُضَحِّيًا للربّ، يتبعه الشعب.
- لم يتبجَّحْ داود بأنّه اشتغل وتعب وضحّى بِماله. إنّما قال للربّ: "من يدك أعطيناك".
- يعكِس القلب ما فيه من استقامةٍ وصدقٍ.
لا ينظر الله إلى التقدمة، بل إلى القلب الذي يُعطي. وهكذا، لم ينظر الله إلى الثمار التي أخذها من الأرض وقدّمها قايين قربانًا للربّ، بل نظر إلى أبكار أغنام هابيل وسِمانِها...
*** ونأخذ المقطع الثالث من إنجيل يوحنا الفصل 12، الذي يروي قصّة مريم وقارورة الطيب. دخل يسوع منزل لعازر في بيت عنيا، فهيَّأتْ مرثا الطعام وراحتْ تخدم يسوع. أمّا مريم أختها، فأخذَتْ قارورة طيب من ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمَي يسوع ومسحت قدميه بشعرها. فامتلأ البيت من رائحة الطيب... فقال يهوذا الإسخريوطيّ: 5 "لماذا لم يُبَعْ هذا الطيب بِثلاثمئة دينار ويُعطَ للفقراء". 6 "قال هذا ليس لأنّه كان يُبالي بِالفقراء، بل لأنّه كان سارقًا، وكان الصندوق عنده، وكان يحمل ما يُلقى فيه".
وكَمْ من الأموال موضوعة اليوم في المصارف، في حين كان يجب أن تكون في الصندوق؟! (ولكن بسبب عدم أمانة... هي اليوم في حساباتنا).
- يَلْفِتنا في هذا المقطع قَلْبان: قلب أنانِيّ يَتَذمَّر ولا يُبالي بِالفقراء (ولا يتصدَّق بفلس واحد من ماله)؛ وقلب أعطى، دُفعة واحدة، قارورة الطيب الغالي الثمن، أيّ كلّ المال الذي جمعه، ربّما خلال سنة أو أكثر، للربّ يسوع الذي سبى قلب ذاك المُعطي!
فلا تَدَّعِ إذًا بأنّك وضعْتَ قلبك بين يدي الله، إن لم تتخلَّ عن مالِك. يقول المسيح "لأنَّه حيثما يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا". عدو العطاء هو الأنانيّة، فعندما تكون مسيطرة، تمنعنا من أن نُعطي. وعندما يمتلك يسوع قلوبنا نُعطي بكرم.
وإذا قدَّمْنا عمليًّا عُشْر مدخولنا للربّ، نكون قد تخطّينا المرحلة الأولى، وتسهل علينا المرحلة الثانية، التي نستطيع أن نُقدّم فيها، مع العُشْر، تقديمات أخرى بِحَسَب الحاجة، ونَصِل بعدها إلى المرحلة الثالثة التي فيها نُعطي فوق طاقتنا، بِكَرَمٍ وتضحِيَة وأَلَم.
خلال مسيرتي مع الله، يطلب منّي أحيانًا أن أقوم بأمورٍ غريبة: كأن أتصدَّق بِما في جيبي مثلًا، وحين كنتُ أُعانِد، كنتُ أبقى في عَوَز. فتَعلَّمتُ مع الوقت ألّا أُعانِد هذا الصوت. وللصُدفَة زارني الصوت هذا الأسبوع، وطلب منّي أن أحتفظ بِعُشْر المال الذي في حوزتي، وأتصدَّق بالباقي. فقلتُ لكنّي قدَّمتُ العشر عن هذا المبلغ! فقال لي الربّ، طلبتُ منك أن تحتفظ بالعشر وتُعطيني كلّ الباقي. فاتَّصلتُ وقلتُ للموظف حضر لي شيكًا باسم الكنيسة بقيمة 90 في المئة من الرصيد.
تذكَّرت قصّة هديّة الابنة لأبيها: أنا واثقة من أنّك لن تدعني أحتاج! ما قيمة المال أو الذهب الذي نتصدَّق به، إذا قارنّاه بِما قدّم المسيح من أجلنا؟ يُروى أنّ رجلًا صعد إلى السماء وفي يده كيس من ذهب. فسأله بطرس، ماذا تحمل في الكيس؟ فقال له: أحمل ذهبي. فقال له بطرس: "لا نُدخِل زفتًا إلى السماء!".
أنا لا أدعوك لكي تُعطي 90 في المئة ممّا اقتصدت، بل أدعوك لأن تُطيع صوت الربّ عندما يتكلّم معك. وعِشْ غنِيًّا من خلال عطائك الكريم لله الذي أعطانا كلّ شيء. فماذا عن كلّ واحد منّا؟ هل نحن كرماء في عطائنا؟
فَلْنُصَلِّ.
عن هذه الخطة
"اصنعني وعاء آخر" هي دعوة للتغيير. دعونا نتأمل سوياً مدى استعدادنا للتغيير والنمو الروحي. يمكن لهذه الخطة أن تلهمنا للسعي نحو التحول الروحي والبحث عن القوة والتجديد التي يمكن أن يقدمها الإيمان المسيحي لحياتنا.
More
نود أن نشكر Resurrection Church على توفير هذه الخطة. لمزيد من المعلومات ، يرجى زيارة: https://www.rcbeirut.org/