إصنعني وعاءًا آخرعينة
الشخصية الكريمة – الجزء الثاني
تحدَّثنا في وقت سابق عن "الشخصيّة الكريمة" من حيث مواصفات الإنسان الكريم ومفاعيل الكَرَم في حياته. أمّا في حديثنا اليوم، فسنُركِّز على فصلين من رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورِنثوس. لكنّي أبدأ أوّلًا بلمحة تاريخيّة سريعة عن العطاء في الكنيسة الأولى:
وُلِدت الكنيسة في أورشليم، في يوم العنصرة. فآمَن بالمسيح جمعٌ غفير... ونَمَتْ الكنيسة بسرعة، فطالب الرسل أن يُصار إلى انتخاب سبعة رجال ليهتمّوا بالخدمة. وبسبب اضطهاد اليهود للمؤمنين جديدًا بالمسيح ومقاطعة الكثيرين لهم، أصبحَتْ الكنيسة في حاجة مادّيَّة كبيرة، وأمسى عددٌ كبير من المؤمنين في حاجة وعَوَز، ما دعا بعضهم إلى أن يبيعوا ممتلكاتهم لِمُساعدة الفقراء... وبعد أن تاب شاول وأصبح بولس الرسول، ذهب إلى أورشليم، لِيَرى بأُمّ العين وضع الكنيسة هناك... ونراه بعد ذلك يُجهّز مع برنابا مساعدات للكنيسة في أورشليم من كنيسة أنطاكيا (تركيا اليوم) (أعمال 11: 27-30).
وفي مجمع الكنيسة في أورشليم (حوالى سنة 51 للميلاد)، تمّ الاتفاق على فرز بولس وبرنابا لِخدمة الأمم، يقول بولس في غلاطية 2: 8-10 "أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ، وَأَمَّا هُمْ فَلِلْخِتَانِ. 10 غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الْفُقَرَاءَ. وَهذَا عَيْنُهُ كُنْتُ اعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ." (أي فقراء المؤمنين في كنيسة أورشليم).
ونرى بولس في 1 كورنثوس أيضًا، يجمع الأموال من كنائس غلاطية للكنيسة في أورشليم. وحين كان بولس في مكدونية (شمال اليونان) يكرز بالإنجيل، كتب رسائله إلى أهل كورنثوس في بلاد اليونان، يحثّهم فيها على أن يكون لديهم شغف العطاء واستعداد هائل لمساعدة الكنيسة في أورشليم، كما سبق وفعلوا. ويُضيف أنّ الكنائس في مكدونية أعطَتْ حَسَب الطاقة وفوق الطاقة، بعدما سمعَتْ بأخبار كنيسة كورنثوس. وكتَبَ أنّه ينتظر في أخائية حتى تنتهي كنائس مكدونية من تقديم تبرّعاتها، ليأتي بعد ذلك ويحمل ما جمعوه إلى أورشليم. وتجنَّبَ بولس أن يَتَّهِمه أحد بعدم الأمانة، فأخذ معه مجموعة من الإخوة، ليكونوا على بَيِّنَة مِمّا يفعله بولس. وهذا درس مهمّ؛ لا تجمع المال لِوَحدك، بل ليكُنْ معك شهود (التدقيق مهمّ للحماية).
وبعد هذه اللّمحة التاريخيّة السريعة، وما ذُكِر باختصار في خدمة المحتاجين في الكنيسة الأولى، سنُحاول إرساء بعض المبادئ لِنُطبّقها اليوم في حياتنا.
1. "ثُمَّ نُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ نِعْمَةَ اللهِ الْمُعْطَاةَ فِي كَنَائِسِ مَكِدُونِيَّةَ،
* نعمة الله لِكي تُعطيَ الكنائس بِكَرَم. وهذا يعني أنّ: الكَرَم لا يأتي من قدرة الإنسان، بل ينبع من نعمة الله. لذا علينا أن نطلب من الربّ نعمةَ الكرم.
2. "أَنَّهُ فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ (هؤلاء ليسوا أغنياء)،
3 لأنّهُم أَعطَوْا حَسَبَ الطَاقَةِ، أنا أَشْهَدُ، وَفَوْقَ الطَاقَةِ، مِن تِلْقاءِ أنفُسِهم،
* عندما تكون في ضيق وعَوَز، وتُعطي فوق طاقتك، وباختيارك التامّ دون أن يُجبرَك أحد، تَختبِر عندها فيض الفرح وغنى الروح على الرغم من الفقر والعَوَز. فعندما تكون حزينًا مُكَدَّرًا، بحاجة إلى الفرح الحقيقي، أعطِ مِمّا عندك بِكَرَم! أَعطِ وقتًا، نصيحة، حبًّا، مالًا...
4 مُلْتَمِسِينَ مِنَّا، بِطِلْبَةٍ كَثِيرَةٍ، أَنْ نَقْبَلَ النِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ الْخِدْمَةِ الَّتِي لِلْقِدِّيسِينَ (يرجوننا بإلحاح أن نقبل مشاركتهم بالعطاء!) 5 وَلَيْسَ كَمَا رَجَوْنَا، بَلْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً لِلرَّبِّ، وَلَنَا، بِمَشِيئَةِ اللهِ.
* أعطى هؤلاء أنفسهم أوّلًا للربّ ولكنيسته. يقول المسيح: "حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك أيضًا". ويقول بولس حيث يكون قلبك، هناك تضع أموالَك، فإذا كنتَ تتبع الشهوة والمظاهر، ستَصْرِف مالك على الثياب والسيارات وسائر الأمور الدنيويّة؛ وإذا كان قلبك يخاف المُستقبل، ستُخزّن أموالك ببُخل ؛ وإذا أَعطَيْتَ حياتك للربّ، فإنّك تُعطي مالَك للربّ.
8 لَسْتُ أَقُولُ عَلَى سَبِيلِ الأَمْرِ، بَلْ بِاجْتِهَادِ آخَرِينَ (أي كنائس مكدونية)، مُخْتَبِرًا إِخْلاَصَ مَحَبَّتِكُمْ أَيْضًا.
* عندما يُعطي الإنسان، لا يسدّ حاجة المُعْوَز فقط، بل يُشجِّع الغير على العطاء، فيتضاعف عطاءه أيضًا، والدافع الذي يشجعنا كلُّنا على العطاء هو نعمة الله في حياتنا.
9 فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ.
* نحن نَقْتَدي بالمسيح بشجاعة، ونَبْذلَ ذواتنا وفقرنا، لِنَصير أغنياء على صورة المسيح.
11 وَلكِنِ الآنَ تَمِّمُوا الْعَمَلَ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّهُ كَمَا أَنَّ النَّشَاطَ لِلإِرَادَةِ، كَذلِكَ يَكُونُ التَّتْمِيمُ أَيْضًا حَسَبَ مَا لَكُمْ.
* جيّدٌ أن تكون لدى الإنسان إرادة العطاء، والأحسن أن يُحقِّق هذه الإرادة بالفعل، فالإرادة من دون الفعل لا تَسُدُّ عَوَزًا.
13 فَإِنَّهُ لَيْسَ لِكَيْ يَكُونَ لِلآخَرِينَ رَاحَةٌ وَلَكُمْ ضِيقٌ، 14 بَلْ بِحَسَبِ الْمُسَاوَاةِ. لِكَيْ تَكُونَ فِي هذَا الْوَقْتِ فُضَالَتُكُمْ لإِعْوَازِهِمْ، كَيْ تَصِيرَ فُضَالَتُهُمْ لإِعْوَازِكُمْ، حَتَّى تَحْصُلَ الْمُسَاوَاةُ. 15 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «الَّذِي جَمَعَ كَثِيرًا لَمْ يُفْضِلْ، وَالَّذِي جَمَعَ قَلِيلاً لَمْ يُنْقِصْ».
* يُحارب بولس هنا الطمع والأنانيّة. ويستعيد ما حصل للشعب في الصحراء حين كانوا يجمعون المنّ، إذ كان الفتيان الأقوياء يجمعون الكثير منه، فيما يجمع الضعفاء القليل. وكانوا يجمعونه لِيُعطوا كلّ واحد حاجة يومه، وليس بقدر ما جمع! وهكذا لم يَجُعْ أحدٌ، ولم يُصَبْ أحدٌ بِتُخمة. "الَّذِي جَمَعَ كَثِيرًا لَمْ يُفْضِلْ (لم يَفْضل عن حاجته شيء) وَالَّذِي جَمَعَ قَلِيلاً لَمْ يُنْقِصْ (لم يَنقصه شيء).
ويُتابع بولس الموضوع نفسه في الفصل التاسع، فيقول:
5 فَرَأَيْتُ لاَزِمًا أَنْ أَطْلُبَ إلى الإِخْوَةِ أَنْ يَسْبِقُوا إِلَيْكُمْ، وَيُهَيِّئُوا قَبْلاً بَرَكَتَكُمُ الَّتِي سَبَقَ التَّخْبِيرُ بِهَا، لِتَكُونَ هِيَ مُعَدَّةً هكَذَا كَأَنَّهَا بَرَكَةٌ، لاَ كَأَنَّهَا بُخْلٌ.
* يجب أن يكون العطاء نابعًا من القلب، وصادرًا عن قلبٍ طيّب، دون التفكير بربحٍ أوخسارة! لأنّ الله يُحبّ المعطي المُتهَلِّل.
6 هذَا وَإِنَّ مَنْ يَزْرَعُ بِالشُّحِّ فَبِالشُّحِّ أَيْضًا يَحْصُدُ، وَمَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ.
* يُشبِّه بولس العطاء بالزرع، فعندما يُعطي الإنسان كأنّه يزرع، وهذه الحبّة (أي ما يُعطيه الإنسان) التي يزرعها تُعطي قوّة الحياة وتُضاعِفها. وهذا المبدأ ينطبق على كثير من نواحي حياة الإنسان، فمَن يزرع السموم في جسمه (أكل غير صحّيّ، دخان، مشروبات غازيّة أو روحيّة، مُخدِّرات...) يحصد السُّقْمَ والمرَض؛ ومَن يزرع مضيعة الوقت والبخل...، يحصد الجهل والفقر؛ ومَن يزرع الحبّ والخِدمة والدراسة والعلم، يحصد ولاء الناس ووَفْرَةً من الأصدقاء والمعرفة.
أمّا الحديث هنا، فهو عن نوعيّة العطاء وليس كمّيَّته: ونُذكِّر هنا بِالأرملة التي أَلْقَتْ فَلْسَيْن في الصندوق، فقد أعطَتْ كلّ ما عندها ولو كان قليلًا جدًّا. وفي ذلك يقول الكتاب: مرقس 12: 43 "إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ، 44 لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا". ولذلك بَلْقى عطاؤها القليل استحسانًا كبيرًا لدى الله.
7 كُلُّ وَاحِدٍ كَمَا يَنْوِي بِقَلْبِهِ، لَيْسَ عَنْ حُزْنٍ أَوِ اضْطِرَارٍ. لأَنَّ الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ. 8 وَاللهُ قَادِرٌ أَنْ يَزِيدَكُمْ كُلَّ نِعْمَةٍ، لِكَيْ تَكُونُوا وَلَكُمْ كُلُّ اكْتِفَاءٍ كُلَّ حِينٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، تَزْدَادُونَ فِي كُلِّ عَمَل صَالِحٍ.
* مفتاح البركة في يدك: أعطِ بسرور، فتَزْداد نعمةً وتزداد في كلّ عملٍ صالح، ويكون لك كلُّ الاكتفاء في كلّ حين وفي كلّ شيء.
9 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «فَرَّقَ. أَعْطَى الْمَسَاكِينَ. بِرُّهُ يَبْقَى إلى الأَبَدِ». 10 وَالَّذِي يُقَدِّمُ بِذَارًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلأَكْلِ، سَيُقَدِّمُ وَيُكَثِّرُ بِذَارَكُمْ وَيُنْمِي غَّلاَتِ بِرِّكُمْ.
* كلّ ما هو للإنسان ليس منه، بل هو من الله. وعندما يُعطي الإنسان، يُكثِر بِذاره وتنمو غلّات بِرِّه. أمّا إذا خبّأ ما لديه واحتفظ به لِنفسه، فإنّ ما لديه يندثر ويخسره.
كذلك الإنسان الذي لا يملك شيئًا كثيرًا، ويتردّد في العطاء، ويقول: "طالما لا أملك إلّا القليل، فلماذا أعطيه؟" عليه أن يعلم أنّ العطاء أمام الله ليس بالكمّيَّة بل بالمُبادرة بقلب طاهر ومُحبّ. فلا تزدرِ القليل الذي لديك.
11 مُسْتَغْنِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ لِكُلِّ سَخَاءٍ يُنْشِئُ بِنَا شُكْرًا ِللهِ.
* الذي يعطي بفرح، يُصبِح غنِيًّا، لأنّ الغنى هو في الداخل.
12 لأَنَّ افْتِعَالَ هذِهِ الْخِدْمَةِ لَيْسَ يَسُدُّ إِعْوَازَ الْقِدِّيسِينَ فَقَطْ، بَلْ يَزِيدُ بِشُكْرٍ كَثِيرٍ ِللهِ.
* العطاء المادّيّ لا يَسُدّ حاجات الناس المادّية فقط، بل يدفع الناس لكي يمجّدوا الله أيضًا ويشكروه، فيصبحون كما قصد الله لهم أن يكونوا منذ بدء الخليقة.
13 إِذْ هُمْ بِاخْتِبَارِ هذِهِ الْخِدْمَةِ، يُمَجِّدُونَ اللهَ عَلَى طَاعَةِ اعْتِرَافِكُمْ لإنجيل الْمَسِيحِ، وَسَخَاءِ التَّوْزِيعِ لَهُمْ وَلِلْجَمِيعِ. 15 فَشُكْرًا ِللهِ عَلَى عَطِيَّتِهِ الَّتِي لاَ يُعَبَّرُ عَنْهَا.
* أعطِ قلبك لِمَن أعطى ابنه، تُصبِح كريمًا في العطاء.
فًلْنُصَلِّ.
عن هذه الخطة
"اصنعني وعاء آخر" هي دعوة للتغيير. دعونا نتأمل سوياً مدى استعدادنا للتغيير والنمو الروحي. يمكن لهذه الخطة أن تلهمنا للسعي نحو التحول الروحي والبحث عن القوة والتجديد التي يمكن أن يقدمها الإيمان المسيحي لحياتنا.
More
نود أن نشكر Resurrection Church على توفير هذه الخطة. لمزيد من المعلومات ، يرجى زيارة: https://www.rcbeirut.org/