سفر الرؤياعينة

اليوم 4: الخلفية اللاهوتية (الأمور الأخيرة)
يُقرُّ كتابُ الرؤيا عُموماً بالتعاليمِ اللاهوتيةِ الواردةِ في كلّ ما كُتبَ قبلَه في الكتاب المقدّس. وقد استندَ يوحنا إلى حدٍ بعيدٍ إلى الكتاباتِ التي سبَقَته، وتوقعَ أن تكونَ تلك الكتاباتُ مألوفةً عند قُرائِه.
يُمكنُ وصفُ الخلفيةِ اللاهوتيةِ لكتابِ الرؤيا بعدةِ طرقٍ. لكننا سنركّزُ على ثلاثةِ مفاهيمَ رئيسيةٍ لتلكَ الخَلفية: أولاً، العقيدةُ الكتابيةُ للأمورِ الأخيرية، أو ما يتعلقُ بالأيامِ الأخيرة؛ وثانياً، مفهومُ العهد؛ وثالثاً، دورُ الأنبياءِ الكتابيين. لننظرْ أولاً في ما يتعلقُ بموضوعِ الأمورِ الأخيريةِ.
كانت الكنيسةُ الباكرةُ في زمنِ يوحنا تشعرُ بتوترٍ كبيرٍ لعدمِ رجوعِ يسوعَ ليتمِّمَ عملَه. كان يسوعُ قد بدأَ خلالَ خِدمتِه الأرضِيةِ بإيصالِ الخَلاصِ إلى كلِ أُمةٍ بافتتاحِه المراحلَ النٍهائيةَ لملكوتِ الله على الأرض. لكن في الوقتِ الذي كَتبَ فيه يوحنا، كان قد مضى نِصفُ قرنٍ على صعودِ يسوع، وبدأ المسيحيون يَتساءلونَ إن كان سيعودُ يوماً. من هنا، فإن أحدَ الأسبابِ وراءَ كتابةِ يوحنا كان ليُطمِئنَ قُراءَه بأن يسوعَ سيعودُ حتماً في المستقبلِ ليحقّقَ كلَ وعودِ الكتابِ المقدسِ عنه. بكلمةٍ أخرى، كتبَ يوحنا ليشرحَ الأمورَ الأخيريةَ، أي تعليمَ الكتابِ المقدسِ حولَ أحداثِ الأيامِ الأخيرة.
إن عبارةَ الأمورِ الأخيرية تشيرُ إلى دراسةِ الأزمنةِ الأخيرة، أو دراسةِ الأمورِ الأخيرة. والكلمةُ مشتقةٌ من كلمةٍ يونانيةٍ وَرَدَت في العَهدِ الجديدِ إسخاتوس، والتي تعني عادةً الأخير. وجرتِ العادةُ أن تُستخدمَ العبارةُ "الأمورُ الأخيرية" للإشارةِ بصورةٍ رئيسيةٍ إلى تعليمِ الكتابِ المقدسِ حولَ مجيءِ المسيحِ ثانية. لكنَ علماءَ الكتابِ المقدسِ دَرجوا على استعمالِ العبارةِ الأمورِ الأخيرية للإشارةِ إلى ذُروَة التاريخِ المقدسِ بكاملِه من مجيءِ المسيحِ أولَ مرةٍ إلى حينِ عودتِه. وهذا الرأيُ الشاملُ للأمورِ الأخيريةِ يتناسبُ مع كونِ مقاطعِ مثلَ العبرانيينَ ١: ٢ و١ بطرس ١: ٢٠ تشيرُ إلى أنَّ زمنَ العهدِ الجديدِ بكامله هو بمثابةِ الأيامِ الأخيرة، أو الأزمنةِ الأخيرة.
لكي ندركَ كيفَ فَهِمَ كُتّابُ العهدِ الجديدِ الأيامَ الأخيرة، من المفيد أن نبدأَ بتعاليمِ العهدِ القديمِ. فقد سبقَ وأنبأَ أنبياءُ العَهدِ القديمِ بأن المسيحَ الآتي، سيُنهي استبدادَ الحُكْمِ الأَجنَبي، ويُعلنُ ملكوتَ اللهِ على الأرض.
يُخبرُنا دانيالُ في دانيال 2: 44 أنَّ مَلكوتَ اللهِ سيَسحقُ الأُممَ والحُكّامَ الأعداءَ بغرَضِ تَوطيدِ حُكمِ اللهِ الأبديِّ على كلِّ الأرض. وفي دانيالَ ٧: ١٣-١٤، ذَهَبَ النبيُّ إلى حَدِ القَولِ إنَّ هذا المَلكوتَ سينتصِرُ من خِلالِ عَمَلِ ابنِ الإنسانِ، المعروف أيضاً بالمَسيح.
قادَت مَقاطعُ نَبويةٌ مِثْلُ تلك التي في دانيالَ لاهوتيِّ اليَهودِ في القَرنِ الأَولِ إلى تَقسيمِ التاريخِ إلى عَصرَين أو دَهرَين كَبيرَين: هذا الدهر دهرُ الخطيّةِ والعَذابِ والمَوت؛ والدهرُ الآتي، عندما يُبيدُ اللهُ أعْداءَه بالكامِل ويُبارِكُ شَعْبَه في النِهاية. وفي القُرونِ التي تلَت زَمَنَ دانيالَ، استمرَت إسرائيلُ في صِراعِها ضِدَ الإمبراطورياتِ الوَثَنيةِ والحُكّامِ الأجانِب. وتاقَ اللاهوتيونَ اليهودُ أكثرَ فأكثرَ إلى مجيءِ المسيحِ لينُهيَ هذا الدهرَ ويُعلنَ الدهرَ الآتي.
ويسوعُ نفسُه غالباً ما اعتمدَ على هذا الرَأيِ للدَهرَيْن في كِرازَتِه. فهو على سَبيلِ المِثال، تَكلمَ عن هذا الدَهرِ والدَهرِ الآتي في أماكِنَ مِثلَ متى ١٢: ٣٢، ومَرقُسَ ١٠: ٢٩-٣٠ ولوقا ٢٠: ٣٤-٣٥. لكنَّ يسوعَ قدَّم وُجْهَةَ نَظَرٍ جَديدةً حَول الدَهرَين. فهو استمرَ من جِهةٍ في الإشارةِ إلى الدَهرِ الآتي كعَصرٍ مُستقبليِّ. لكن، من جِهةٍ أخرى، تَحدثَ أيضاً عن كَونِ مَلكوتِ اللهِ قد أتى في أيامِه. بكلماتٍ أخرى، علَّم يسوعُ أن الدَهرَين تداخلا في زمنِه. الدهرُ الآتي بدأ على الرغمِ من أن الدهرَ الحالي أو هذا الدهرَ لم ينتهِ بعد. وبحسبِ كلامِ يسوعَ فإنَّ المؤمنينَ يَعيشونَ الآن في ملكوتِ اللهِ ويتمتعونَ ببركاتِه العديدة. فانتصارُ يسوعَ على القُوى الشّيطانية بَرهنَ أنه بَدأ أو افتَتَحَ المَرحَلةَ النِهائيةَ لمَلكوتِ اللهِ على الأَرض (متى 12: 28).
من خِلالِ خِدمَة المسيحِ الأرضِيَة، حَققَ اللهُ الغلبةَ النِهائِيَةَ على أَعدائِه، وجَلَبَ البَركاتِ النِهائيةَ لشَعبِه. فَملكوتُه اقتَحمَ هذا الدَهرَ الشَريرَ. فما عَمِلَه المَسيحُ كان عمليةَ إنقاذٍ لشعبِ اللهِ وضمانةً لبركاتِه المستقبلية. وكما قرأنا للتَّو في متى ١٢: ٢٨، بدأ هذا الإنقاذُ في زمنِ المسيح. ونجدُ هذا الموضوعَ ذاتَه في مقاطعَ مثل لوقا ١٦:١٦؛ ١٧: ٢٠-٢١، ويوحنا ٣:٣. في الوقتِ الحاضر، يستمرُ الملكوتُ بالنمو كما نرى في متى ١٣: ٢٤-٣٠؛ ٣٦-٤٣، ولوقا ١٩: ١١-٢٧. وسيتمُّ الملكوتُ أو يُستكملُ في المستقبل، عند رجوعِ المسيح، كما علَّمَ هو ذاتُه في مقاطعَ مثلِ متى ١٦: ٢٧-٢٨؛ ٢٤: ٤٤-٥١، ٢٥: ٣١-٤٦.
هذه النظرةُ إلى الدهرَينِ نجدُها واضحةً بصورةٍ خاصة في كتاباتِ الرسولِ بولس. فهو من جهة، أكدَ أنَّ دهرَ الخطيةِ والموتِ هذا ما زال موجوداً. فمثلاً، وصفَ الشيطانَ بـأنه إِلهُ هذَا الدَّهْرِ في ٢ كورنثوسَ ٤:٤. ووصفَ أي فيلسوفٍ وثني بـأنه مُبَاحِثُ هذَا الدَّهْرِ في ١ كورنثوسَ ١: ٢٠. علاوةً على ذلك، استخدمَ بولسُ عبارةَ الدهرِ الآتي للإشارةِ إلى الدهرِ المستقبلي، عندما ستأتي الدينوناتُ والبركاتُ النِهائيةُ على الجنسِ البشري. ونرى ذلك في أماكنَ مثلِ أفسُسَ ٢: ٧، و١ تيموثاوسَ ٦: ١٩. وهو يقابلُ بينَ الدهرَين في أفسُسَ ١: ٢١.
من جهةٍ أخرى، علَّم بولسُ أيضاً أنَّ الدهرَ الآتي قد سبقَ وجاءَ إلى حدٍ ما. على سبيلِ المثال، في ١ كورنثوسَ ١٠: ٦، كتبَ: إن إتمامَ كلِّ الدهورِ قد حصلَ في المسيح. وفي كولوسي ١: ١٣-١٤، قالَ إن المؤمنينَ قد انتقلوا إلى ملكوتِ المسيح.
ووجهةُ نظرِ الأمورِ الأخيريةِ التي يُعلِّمُها يسوع وبولس، تُسمَّى أحياناً الأمورَ الأخيريةَ التي تمَّ تدشينُها لأنها تعلنُ أن الدهرَ الآتيَ قد بدأ أو افتُتِح، لكنهُ لم يأتِ بعد في كل ملئِه. يسوعُ افتتحَ ملكوتَ اللهِ خلالَ مجيئِه الأول، لكنهُ لم يُلغِ هذا الدهرَ تماماً. ومنذُ ذلكَ الحين، سارَت أبعادُ الدهرَين جنباً إلى جَنب، الواحدُ إلى جانبِ الآخر. ونتيجةً لذلك، سبق واختبرَ المؤمنونَ بعضَ بركاتِ الدهرِ الآتي. لكننا لن نختبرَ كلَّ بركاتِه حتى يكتملَ الدهرُ عندِ عودةِ يسوع.
بحسبِ علمِ الأخروياتِ عندَ اليهود، كان من المُفترضِ أن يصلَ المسيا بدهرِ الخطيةِ والموتِ الحالي إلى ذُروةِ نهايتِه، إذ يُعلنُ الدهرَ الآتي. لكنَ المسيحَ لم يفعلْ ذلك، مما جعلَ العديدَ من الناس يتساءلونَ إن كانَ هو المسيا حقا. وهذا أحدُ الأسبابِ الذي جعلَ كتّابَ العهدِ الجديدِ يعملون بجَهدٍ كبيرٍ كي يوضحوا أن ملكوتَ اللهِ يأتي على مراحلٍ. نعم، هذا التغييرُ كان مفاجئاً. لكنَّ معجزاتِ المسيح القويةَ وشهادتَه كانت كافيةً لأثبات أن ما يقولُه هو الحقيقة، وأن اللهَ أرادَ حقاً أن يأتي الملكوتُ بصورةٍ غيرُ مُتوقعةٍ. فعند عودة المسيح سينتهي تماما هذا الدهر الشرير، وسيأتي الدهر الآتي بكل ملئه. لكن إلى ذلك الحين، ستبقى أبعادُ الدهرَينِ موجودةً جنباً إلى جنبٍ.
لكن كيف أثَّر هذا الرأيُ عن الأمورِ الأخيرية على يوحنا وهو يَكتِبُ كتابَ الرؤيا؟ ولماذا كانت هذه النُقطةُ اللاهوتيةُ مُهمَةً بالنسبةِ لهُ ولقُرائِه؟
في الزمنِ الذي كَتبَ فيه يوحنا كتابَ الرؤيا، كانت كنائسُ آسيا الصُغرى تُواجِهُ صُعوبةً في فَهمِ الاختِلافاتِ في مُعتقَداتِها. فهم من جهة، آمنوا بأن اللهَ يسودُ على التاريخ، وأن المَسيحَ انتصَرَ على الدَهرِ الشِريرِ الحالي، وأنه تمَّمَ توقُعاتِ العَهدِ القَديمِ بمجيئِه كمنقذٍ لكلِ الذينَ آمنوا به.
لكن، من جهةٍ أخرى، كان على كَنائسِ آسيا الصُغرى أن تَتعامَلَ مع واقِعِ استمراريةِ وجودِ الشرِ ونشاطِه في عالَمِهم. ونَتيجةً لذلك، واجَهوا أسئِلةً صَعبةً جدّاً من مثلِ: "إنْ كان المسيحُ قد جَلبَ الخَلاص، فلماذا ما زالَ العالمُ يُجرِّبُ المَسيحيينَ ليُخطِئوا؟" أو "إن كانَ المَسيحُ يَحكمُ، فلماذا لا يُنقذُنا من الاِضطِهاد؟" ومن الطبيعي أن يَسألوا: "كيف ومتى ستَنتهي كلَ هذه التَجارب؟" هذه الأسئلةُ جَميعُها مُرتبِطةٌ بطريقةٍ ما بالنَظرةِ إلى الأيامِ الأخيرة. وهي بالتَحديدِ الأسئلةُ التي يُجيبُ عنها كتابُ الرؤيا.
كان يوحنا يُدرِكُ تماماً وجودَ صُعوباتٍ لاهوتيةٍ نشَأت بسببِ نظرةِ العهدِ الجديدِ إلى الأُمورِ الأَخيرية. وأحدُ أهْدافِ كِتاب الرُؤيا هو مُساعدةُ المسيحيين على فَهمِ تلكَ النظرة. وفي كلِ كتابِ الرؤيا، كان يوحنا يُشجِّعُ قُراءَه أن ينظروا إلى هذه الصُعوبةِ على ضَوءِ انتِصارَين: الانتِصارُ الأول، حَققَه يسوعُ على الدَهرِ الحاضِر.
من خِلالِ مَوته، وقِيامتِه، وصعودِه، فقد ضَمِنَ المسيحُ بفدائِه لكلِ مؤمنٍ حقيقيٍ خلاصاً داخليّاً روحيّاً. ونجدُ الاحتِفالَ بهذا الانتِصارِ الأوَلي في مواضعَ مثلِ الرؤيا ١: ١٨، حيثُ أعلنَ المسيحُ أنه قامَ من بينِ الأموات، وبأنه لن يَموتَ من جَديد. وكذلكَ في الفَصلَين ٥ و١٢، فهما يتحدثانِ عن سلطانِ المَسيحِ وقُوَتِه، وكيفَ نالَهُما بموَتِه وقيامَتِه.
والانتصارُ الثاني هو الانتصارُ النِهائيُّ الذي سيُحقُّقه المَسيحُ عند عودِتِه، وهو انتِصارٌ سينتجُ عنه القضاءُ الكاملُ على أعداءِ الله، وتَجديدُ الخليقةِ كلِّها. ونجدُ هذا الانتصار النهائيَّ في مواضعَ مثلِ الرؤيا ١: ٧، وفي الفصلَين ١٩ و٢٢.
وقد أرادَ يوحنا أن يَعرِفَ قُراؤه الأوَلون أن يسوعَ المسيحَ قد قَهرَ حقاً قوةَ الخَطيةِ، والألمِ، والمَوت، تماماً كما أنبأَ العهدُ القديم. وعلى هذا الأساسِ، حثَّ يوحنا قراءَه أن يَثِقوا بأن يسوعَ سيعودُ ليتمِّمَ دينونةَ اللهِ وخلاصَه.
الكلمة
عن هذه الخطة

يمكن لسفر الرؤيا أن يكون ممتعاً ومربكاً في نفس الوقت. فهو ممتع لأنه يسجل رؤى دراميّة عن دور المسيح والكنيسة في تاريخ العالم. لكنه أيضاً مربكاً لأني الصور المجازيّة الخاصة به غريبة جداً عن القرّاء المعاصرين. ورغم ذلك، فإن الرسالة العامة واضحة: يسوع الملك سيعود بانتصار.
More
نود أن نشكر خدمات الألفيّة الثالثة على تقديم هذه الخطة. لمزيد من المعلومات ، يرجى زيارة الموقع: